الأنواء المناخية والشرك بالله
وقول الله تعالى: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} [الواقعة: 82].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مناسبة الباب لكتاب التوحيد:
لمّا كان نسبة نزول المطر إلى النوء على وجه الاعتقاد –أن له تأثيراً في نزوله- شركاً أكبر كاعتقاد جلب النفع أو دفع الضر في الأموات والغائبين، أو شركاً أصغر إن كان لا يعتقد أن لها تأثيراً وإنما هي أسباب لنزول المطر ناسب أن يَعقد له المصنف باباً في كتاب التوحيد للتحذير منه.
ما جاء: أي: من الوعيد.
في الاستسقاء: أي: طلب السقيا ومجيء المطر.
بالأنواء: جمع نَوء –وهي منازل القمر- وهي ثمانية وعشرون منزلة ينزل القمر كل ليلة منزلة منها، ومنه قوله تعالى: {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ} [يس: 39] وهي عبارة عن ثمانية وعشرين نجماً معروفة المطالع في كل ثلاثة عشر يوماً يغيب واحدٌ منها مع طلوع الفجر. ويطلع رقيبه من المشرق وتنقضي كلها مع انقضاء السنة القمرية، وتزعم العرب في الجاهلية أنه إذا غاب واحدٌ منها وطلع رقيبه يكون مطرٌ وينسبونه إلى طلوع النجم أو غروبه ويقولون: مُطرنا بنوء كذا.
وتجعلون رزقكم: أي: تجعلون نصيبكم –من شكر نعمة الله بإنزال المطر – التكذيب.
أنكم تكذبون: بنسبة النعم لغير الله من الكواكب فتقولون: مطرنا بنوء كذا وكذا.
المعنى الإجمالي للآية:
أن الله سبحانه وتعالى يعيب على المشركين كفرَهم بنعمة الله بنسبة نزول المطر إلى النجم، ويخبرُ أن هذا القول كذبٌ محضٌ؛ لأن نزول المطر إنما هو بفضل الله وتقدير ولا دخل فيه لمخلوق.
مناسبة الآية للباب:
أن الله سبحانه أنكر نزول المطر إلى غيره من النجوم والأنواء وسمّاه كذباً.
ما يستفاد من الآية:
1- إبطال نسبة نزول المطر إلى الأنواء.
2- أن نسبة نزول المطر إلى النوء كذب.
3- وجوب شكر الله على نعمه ووجوب نسبة نزول المطر إليه تفضلاً منه وإحساناً.
وعن أبي مالك الأشعري -رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- قال: "أربعة في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركوهن: الفخر بالأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة على الميت". وقال: "النائحة إذا لم تتب قبل موتها، تُقام يوم القيامة وعليها سِرْبال من قَطرَان ودرع من جَرَب""1". رواه مسلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أ- ترجمة أبي مالك: اسمه الحارث بن الحارث الشامي صحابي.
من أمر الجاهلية: المراد بالجاهلية هنا ما قبل البعثة؛ سمُّوا بذلك لفرط جهلهم، وكل ما يخالف ما جاء به الرسول –صلى الله عليه وسلم- فهو جاهليّة.
لا يتركونهن: أي: ستفعلها هذه الأمة إما مع العلم بتحريمها أو مع الجهل بذلك.
الفخر بالأحساب: أي: التعاظم على الناس بالآباء ومآثرهم.
والطعن في الأنساب: أي: الوقوع فيها بالعيب والتنقص.
والاستسقاء بالنجوم: أي: نسبة السقيا ومجيء المطر إلى النجوم والأنواء.
والنياحة: أي: رفع الصوت والندب إلى الميت.
تقام يوم القيامة: تبعث من قبرها وتوقف يوم الحساب والجزاء.
سربال من قطران: أي: ثوبٌ من نحاس مذاب تلطّخ به فيصير كالثوب.
دِرع: الدرع: ثوب ينسج من حديد، يلبس في الحرب.من جَرَب: الجرب مرض جِلدي.
المعنى الإجمالي للحديث:
يخبر النبي –صلى الله عليه وسلم- أنه سيستمر في الأمة شيءٌ من المعاصي التي كان يفعلها الناس قبل البعثة، وذلك يتمثل في أربع خصال هي: التعاظم بالآباء مع أنه لا شرف إلا بالتقوى، وتنقّص أنساب الناس وعيبُها، ونسبة نزول المطر إلى طلوع النجوم والأنواء، ورفع الصوت بالبكاء على الميت وندبه. ثم يبين الوعيد في حق الخصلة الأخيرة بأن من استمر عليها من غير توبة فإنه يأتي يوم القيامة ملطخاً جسمُه بالنحاس المذاب حتى يكون ذلك كالقميص، لتشتعل به النار، وتلتصق بجسمه وتنتن رائحته.
مناسبة الحديث للباب:
أن فيه دليلاً على تحريم الاستسقاء بالأنواء، وأنه من أمور الجاهلية.
ما يستفاد من الحديث:
1- تحريم الاستسقاء بالأنواء، وأنه من أمور الجاهلية.
2- أن ما كان من أمر الجاهلية لا يتركه الناس كلهم.
3- أن ما كان من أمر الجاهلية وفعلِهم فهو مذمومٌ في دين الإسلام.
4- منع التشبه بالجاهلية.
5- تحريم الافتخار بالأحساب، وأنه من أمور الجاهلية.
6- تحريم الوقوع في الأنساب بذمّها وتنقّصها.
7- تحريم النياحة وبيان عقوبتها وأنها من الكبائر.
8- التوبة تكفر الذنب وإن عظُم.
9- أن المسلم قد يكون فيه شيء من خصال الجاهلية ولا يقتضي ذلك كفرُه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
"1" أخرجه مسلم برقم "934".
ولهما عن زيد بن خالد قال: صلى لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم- صلاة الصبح بالحديبية على إثر سماء كانت من الليل، فلما انصرف أقبل على الناس فقال: "أتدرون ماذا قال ربكم؟" قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: "قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر. فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته، فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب. وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا، فذلك كافر بي مؤمن بالكواكب""1".
ولهما من حديث ابن عباس بمعناه وفيه: قال بعضهم لقد صدق نوء كذا وكذا، فأنزل الله هذه الآية: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} إلى قوله: {تُكَذِّبُونَ}.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ترجمة زيد بن خالد: هو الجهني المدني صحابيّ مشهور.
صلى لنا: أي: صلى بنا، فاللام بمعنى الباء.
الحديبية: قريةٌ سميت ببئر هناك على مرحلة من مكة، تسمى الآن الشميسي.
إثر: بكسر الهمزة ما يعقب الشيء.
سماءٌ: مطرٌ سمي بذلك؛ لأنه ينزل من السماء وهي كل ما ارتفع.
من الليل: أي: كان في تلك الليلة.
فلما انصرف: أي: التفت إلى المأمومين وليس المراد الانصراف من المكان.
أتدرون؟ لفظ الاستفهام معناه التنبيه.
من عبادي: المراد العبودية العامة.
وكافرٌ: أي الكفر الأصغر.
مُطرنا بنوء كذا وكذا: أي: نسب المطر إلى غير الله وهو يعتقد أن المنزل له هو الله.
صدق نوء كذا وكذا: أي: صدق سحاب ومطر النجم الفلاني.
فلا أقسم: هذا قسمٌ من الله عز وجل وهو يقسم بما شاء من خلقه.
بمواقع النجوم: أي: مطالع الكواكب ومغاربها على قول الأكثر من المفسرين.
المعنى الإجمالي للحديث:
يذكر لنا هذا الصحابي الجليل ما كان من إرشاد النبي –صلى الله عليه وسلم- لأمته، بمناسبة نزول المطر، وما ينبغي لهم أن يقولوه عند ذلك، فيروي –صلى الله عليه وسلم- عن ربه أنه حينما امتحن الناس بإنعامه عليهم بإنزال الغيث الذي فيه حياتهم، انقسموا إلى قسمين:
قسمٌ اعترف بفضل الله ونسب النعمة إليه على وجه الشكر. وقسمٌ أنكر فضل الله ونسب النعمة إلى طلوع النجم أو غروبه وسُمي عمل إيماناً وعمل الثاني كفراً.
وفي رواية ابن عباس أن هذه الآيات وهي قوله تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} وما بعدها نزلت في إنكار نسبة نزول المطر إلى النجوم.
مناسبة الحديث للباب:
أن فيه تحريم نسبة المطر إلى النجم وتسميته كفراً وكذباً.
ما يستفاد من الحديث:
1- تحريم نسبة نزول المطر إلى النجم وتسميته كفراً.
2- مشروعية تعليم الناس وتنبيههم على ما يخل بالعقيدة.
3- وجوب شكر الله على النعمة، وأنه لا يجوز إضافتها إلى غيره.
4- إلقاء التعليم على طريقة السؤال والجواب؛ لأنه أوقع في النفس.
5- أن من سُئل عما لا يعلم فإنه يتوقف ويكل العلم إلى عالمه.
6- وصف الله بالفضل والرحمة.
7- أن من الكفر ما لا يخرج من الملة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
"1" أخرجه البخاري برقم "846" ومسلم برقم "71".