سمر على المقابر ..

بسمِ اللهِ الرَّحـمَنِ الرَّحـيم



سَمَرٌ عَلى المَقابر

كنتُ مَرةً في جَنَازةٍ، الجمعُ غَفيرٌ والموقفُ مُحزنٌ، أرى أقاربَ للمُتوفَّى يتألمون لفقدِ قريبِهم ويبكون، في مقابلِ ذلك رأيتُ أشخاصَاً يقِفُون في صفِّ انتظارِ الجَنازة ليحملوها، وبينما هُم كذلك إذ كانوا يتبادلونَ أطرافَ الحديث ويَتضاحكون بطريقةٍ لا تشي باحترامٍ للمقام فَضلاً عن احترامِ أهل المُتوفَّى.

مشهدٌ آخر، بعد وصولِ الجَنازةِ إلى مستقرِّها الأخير، وبينَما تقومُ مجموعةٌ بأعمال الدَّفن، تجدُ بعضاً من المجموعات تنأى جانبَاً تتجاذبُ الحديثَ الدنيوي مع أصواتِ الضحِك، ويكثرُ الحديثُ عن التجارَة والأعمال والعمَل..إلخ، وينتهي المشهدُ بانتِهاء الدَّفن دونَ أن تكون هنالك مُشاركةٌ لأصحابِ العزاءَ في مشَاعرهم وأحاسيسِهم تجاه مُصَيبتِهم.

إنَّ أمثالَ هؤلاء من الأفضلِ لهم أن يقبعُوا في بيوتِهم يتسامَرون هناك ويَتَضَاحكونَ محتَرمين مشاعرَ أهل المُصيبة ومكانِ التَذكرةِ والعِظَة، فيا لله كيفَ أنَّ الله تعالى جعلَ المقابرَ مكاناً يتذكرُ فيه المرءُ مصيرَه الذي سيؤولُ إليه!! وهم لم يجعلوا للمكانِ قدسيَّتَه ولم يعطوه هيبَتَه ولم يتفكَّروا بمَن تحت تلك اللحُود كيف حالُهم!! وحشَةٌ وظُلمَة تدعوان المرءَ للتساؤلِ كيف سيكونُ مصيرُك ومَتى؟!!

لم تعُد مثلُ هذِه الظاهرَةِ في تناقُص، بل للأسف الشَّديد تزدادُ يومَاً بعدَ آخر، وذلك دليلٌ على فناءِ القلوبِ قبلَ أجسَادِها، وموتِ الأحاسيسِ في نفوسِ أصحابِها، ونسيانِ الموتِ وما فيه مِن غصَّات، وهادِمِ اللذَّاتِ وما فيه من سَكرات، "وَجَاءت سَكرةُ المَوتِ بالحقِّ ذلك ما كنتَ منه تَحيد" "كُلُّ نفسٍ ذائقَةُ المَوتِ ثُمَّ إلينَا تُرجَعُون".

إنَّ دخولِ المقابرِ لفرصَةُ لتذكرِ الآخرةِ، وعبرةٌ للنُّفوس لتعلمَ أنَّ ما لحقَ بغيرِها سيلحقُها، والموتُ كأسٌ وكلُّ النَّاس شاربُه، فرصةٌ لتجديدِ النَّفس وتذكيرِها بالله تعالى وتقصيرِها في حقِّه، ومُشاركتُك أهل الفقيدِ جنازتَهم وعزائهم لا يعني حضورَ جسدِك فحسب، بل مشاركتهم أحاسيسَهم ومشَاعرَهم واحترامَ موقفِهم الذي هُم فيه.


أتَمرحُ إن شاهدتَ نعشَـاً لهــالِك
إليـك أكُـفُّ الحاملـينَ تُــشـير
ُ
ستركبُ ذاكَ المركبَ الوعرَ ساعةً
إلى حيثُ سارَ الأولونَ تسير
ُ
نقي مِن غُبارِ الأرضِ بِيضَ ثيَابِنَـا
وتـلك رُفاتُ الهالكــينَ تَطـيرُ