(النصيحة الذهبية للأشاعرة المعاصرين ) .. للشيخ عبدالرحمن الوكيل - رحمه الله - (النصيحة الذهبية للأشاعرة المعاصرين ) .. للشيخ عبدالرحمن الوكيل - رحمه الله - (النصيحة الذهبية للأشاعرة المعاصرين ) .. للشيخ عبدالرحمن الوكيل - رحمه الله - بسم الله الرحمن الرحيمتميز الشيخ عبدالرحمن الوكيل – رحمه الله – كما يقول الشيخ محمد علي عبدالرحيم رئيس جماعة أنصار السنة – رحمه الله – بـ " جمال البلاغة ، ووضوح المعاني ، وسعة الاطلاع ، وشرف الغاية ، كما جمع علمًا مصفىً من شوائب البدع والخرافات الصوفية ، وكان حسَن اللغة ، قليل اللحن ، فصيح العبارة " . " جماعة أنصار السنة ، للدكتور الطاهر ، ص 186 " .
قلتُ : وللشيخ كتابٌ مهم صاغه بأسلوبه الجميل ، عنوانه " الصفات الإلهية بين السلف والخلف " ، ناقش فيه أشاعرة عصره من المتأخرين ، الذين خالفوا عقيدة متقدميهم - بعد أن مرّ على مشاهيرهم - ، ثم نصحهم بالعودة إلى العقيدة السلفية ، وأن لا يُكابروا بالتشبث ببدع الجهمية ، أحببتُ أن أنقل جزءًا منه هنا من باب النصيحة - ؛ لعله يجد أذنًا " أشعرية " صاغية ، تؤوب إلى الحق ، قبل أن تلقى – ببدعها – الحق .. والله الهادي . قال - رحمه الله - :عقيدة أبي الحسن الأشعري- أورد كلامه في الإبانة ثم قال - : هذه هي عقيدة إمام الأشاعرة الأول في الاستواء فليتدبر أتباعُه ما وَصَمَ به إمامهم أولئك الذين يؤوِّلون الاستواء بمثل تلك التأويلات الباطلة التي يدين بها الخلفيون الزاعمون أنهم أشاعرة.
ليتدبروا، فلعلهم - على الأقل- لا يوقعون أنفسهم تحت ما حكم به إمامهم الكبير على المؤولة. ولعلهم يوقنون مرة أخرى بأن ما صارت إليه "الأشعرية" على يد متأخري الأشاعرة يخالف كل المخالفة عقيدة إمامهم الأشاعرة الأول، وبأن هؤلاء المتأخرين من الأشاعرة إنما هم أشباح الجهمية والمعتزلة، أو شياطينهم ..
هذه هي عقيدة الأشعري كما بسطها في كتابه "الإبانة"، وقد أثبت الحافظ "ابن عساكر" جل هذه النصوص التي ذكرناها في كتابه "تبيين كذب المفتري"، وابن عساكر قد توفى سنة 571هـ، وهو من خُلَّص الأوفياء لإمامه الكبير أبي الحسن، وقد قدم لهذه النصوص بقوله في كتابه التبيين: "لابد أن نحكي عنه معتقده على وجهه بالأمانة؛ ليُعلم حقيقة حاله في صحة عقيدته في أصول الديانة، فاسمع ما ذكره في أول كتابه الذي سماه بالإبانة"( 1). ثم نقل كثيراً من تلك النصوص.
فابن عساكر - وقد نصب نفسه لتمجيد أبي الحسن ولإثبات أنه كان على عقيدة السلف، وللدفاع عنه في حماس قوي وعاطفة مشبوبة - لم يجد ما يحقق له غرضه سوى ما سجله الأشعري في "الإبانة" ، وهذا مصداق ما قاله ابن تيمية عن كتاب الإبانة: " وقد ذكر أصحابه ـ أي أصحاب الأشعري ـ أنه آخر كتاب صنفه، وعليه يعتمدون في الذَّبِّ عنه عند من يطعن عليه"( 2) .
كما يذكر ابن عساكر أيضاً ما سجله " أبو الحسن" في كتابه "العمد" وهو قوله: " وألفنا كتاباً كبيراً في الصفات. وفي إثبات الوجه لله، واليدين، وفي استوائه على العرش". كما يذكر ابن عساكر قولاً آخر لأبي الحسن سجله أيضاً في كتاب "العمد": "وألفنا كتاباً كبيراً في الصفات نقضنا فيه كتاباً كنا ألفناه قديماً فيها على تصحيح مذهب المعتزلة لم يؤلف لهم كتاب مثله، ثم أبان الله سبحانه لنا الحق، فرجعنا عنه، فنقضناه، وأوضحنا بطلانه"( 3).
كما ينقل ابن عساكر مَرْثيّة رَثَى بها أحد الشعراء أبا الحسن، وقد جاء فيها ما يأتي:
ولا يرَى صِفَاته
مثلَ صفاتِ البَشَرِ
وليس ينفي صفة
له كنَفْي المُنْكِرِ
ويثبتُ استواءَه
كما أتى في السُّور( 4)
كل هذا، بل بعضه يدمغ بالجور أولئك الأشاعرة الذين يمقتون أن يُنسب إلى الأشعري أنه كان يُمجد عقيدة السلف. وذلك حين يتراءون بالارتياب في صحة نسب كتابه "الإبانة" إلى الأشعري(5 )، أو حين يزعمون أنه رجع عما فيه، فألف الكتب التي تنقض ما أثبته فيه!! والإبانة في الحقيقة هو آخر كتاب ألفه!!.
ولا أظن في أشعري مسلم، أنه يرتضي أن يُتهم إمامه بالردة عن دين الحق، أو بأنه كان نَهْبَ الحيرة والاضطراب في عقيدته، أو بأنه كان ذا وجهين ، وجه ينافق به المعتزلة والمعطلة، فكتب في تأويل الصفات أو نفيها، ووجه آخر ينافق به السلفيين، فيكتب في إثبات الصفات، ولا أظن في إنسان يحترم الحقيقة أنه يجنح إلى الريبة في صحة نسب الكتاب إلى الأشعري من غير دليل، إلا إن كنا نعتبر نزغ الهوى دليلاً!!. كما لا أظن أنه يرتاب في أن الأشعري ظل يؤمن بكل كلمة قالها فيه، ولم يؤلف كتاباً آخر ينقض به ما أثبته في الإبانة.
والذين يُجلون الأشعري، ويفخرون بالانتساب إليه، لا أظن أيضاً أنهم يجرؤون على إنكار هذه الحقيقة التي أذكرهم بها مرة أخرى: تلك هي أن ما انتهى إليه مذهب الأشعري على يد بعض أتباعه يخالف ما كان عليه الأشعري نفسه، ويناهضه ، وأن ما كتبه الرازي، أو الجويني وغيرهم من تأويلات يناقض عقيدة الأشعري كل المناقضة، وينتسب برحمٍ ماسَّةٍ إلى المعتزلة والجهمية الذين كفَّرهم أبوالحسن الأشعري!! فهل بعد هذا أستطيع أن أُقدِم على الظن بأن أشاعرة اليوم لن يُقْدِموا على تحطيم إمامهم الكبير؛ ليبنوا على أنقاضه بعض الذين أبوا إلا أن يجحدوا بدين إمامهم الكبير، وإلا أن يعينوا عليه عدوّه من الجهمية والمعتزلة!! وإلا أن يَسُبُّوا كبار أئمتهم ؛ كالأشعري، ليسبوا ـ بَغْياً ـ أنصار السنة؟.
رأي الأشعري في كتاب المقالات: وكتاب المقالات من أنفس وأجل الكتب التي عنيت بترجمة آراء الفرَق الإسلامية وغير الإسلامية، وقد سماه: "مقالات الإسلاميين، واختلاف المصلين" ، وكل أشعري يفخر بهذا الكتاب، غير أن الكثير منهم كان يتمنى أن يحذف منه الأشعري هذا الباب الذي عنون له بقوله: "هذه حكاية جملة قول أصحاب الحديث، وأهل السنة". ولقد بدأه بذكر طرف من عقيدة أهل السنة، ثم ذكر أنهم يُقرون بأن الله سبحانه على عرشه، وأن له يدين بلا كيف، وأن له عينين بلا كيف، وأن له وجهاً، وأنه ينزل إلى السماء الدنيا كل ليلة، وأنه يجيء يوم القيامة، وأنه يقرب من خلقه كيف يشاء، وأنهم يرون اتباع من سلف من أئمة الدين، ومجانبة كل بدعة، وكل داع إلى بدعة. وقد ذكر أبوالحسن بجوار كل مسألة أدلتها النقلية من القرآن والسنة. ثم قال: "وبكل ما ذكرنا من قولهم نقول، وإليه نذهب، وما توفيقنا إلا بالله، وهو حسبنا، ونعم الوكيل"( 6).
لقد خشي الأشعري أن يظن به ظان أنه ليس من أهل السنة، فعقب على رأي أهل الحديث بما عقب. وهكذا نرى الأشعري لا يترك فرصة تسنح من غير أن يَهْتَبِلَها؛ ليثبت أنه على عقيدة السلف، هذا لأن ولاءه القديم للمعتزلة كان شبحاً رهيباً يؤرقه، ويثير ثائرة شَجْوِه، ويُسعر جحيم الندامة في أعماقه، ويريب فيه أُمَّة من الناس، ويدفعه إلى أن يؤكد في كثير من كتبه التي ألفها بعد توبته من الاعتزال أنه على عقيدة السلف. تُرى، هل اقتنع الأشاعرة؟.
إني لأخشى أن يستبد بهم العناد، فيدفعهم إلى دَمغ إمامهم الكبير أبي الحسن الأشعري بالزيغ والتجسيم؛ ليرموا بنفس هذا البهتان أنصار السنة المحمدية!! أخشى أن يصموا آذانهم عن هذا النداء الخالص من النية الصافية، ومن جلال الحقيقة وسمائها، فيصموا إمامهم الكبير بالردة عن حقيقة الدين الحق!! أما نحن "أنصار السنة المحمدية" فنبرئ إمام الأشاعرة الكبير من هذه الوصمة الشنعاء.
رأي الباقلانيوالباقلاني هو ـ كما يقول: ابن تيمية في "الحموية" - : "أفضل المتكلمين المنتسبين إلى الأشعري، ليس فيهم مثله، لا قبله ، ولا بعده". وقد سجل الباقلاني: أنه سلفي العقيدة في كتبه الآتية: التمهيد، والإبانة، والحيرة، وننقل هنا رأيه عن التمهيد.
إيمانه بالاستواء: قال الباقلاني: "إن قال قائل: فهل تقولون: إن الله في كل مكان؟.
قيل: معاذ الله، بل هو مستوٍ على العرش، كما أخبر في كتابه، فقال عزّ وجل: ( الرحمن على العرش استوى ) ، وقال تعالى: ( إليه يصعد الكلم الطيب ) ، وقال: ( أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض ) .
رده على من يزعمون أن الله في كل مكان: يرد الباقلاني على أصحاب هذه الفرية بقوله: "لو كان في كل مكان، لكان في جوف الإنسان، وفي فمه، وفي الحشوش، وفي المواضع التي يُرْغَب عن ذكرها ـ تعالى الله عن ذلك ـ ولو كان في كل مكان، لوجب أن يزيد بزيادة الأمكنة، إذا خلق منها ما لم يكن خَلَقَه. وينقص بنقصانها ، إذا بطل منها ما كان، ولَصَحَّ أن يُرْغب إليه إلى نحو الأرض، وإلى وراء ظهورنا، وعن أيماننا، وعن شمائلنا. وهذا ما قد أجمع المسلمون على خلافة وتخطئة صاحبه".
شبهة وردها: والشبهة الأولى نتجت عن سوء فهم - واعتقد أن سوء الفهم متعمّد - لقوله تعالى: ( وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله ) ، فقد زعم أصحاب هذه الشبهة أن هذه الآية الكريمة تثبت أن الله في كل مكان!! وعلى هؤلاء يرد الباقلاني بقوله: " المراد أنه إله عند أهل السماء ، وإله عند أهل الأرض ؛ كما تقول العرب: فلان نبيل مُطَاع بالعراق، ونبيل مطاع بالحجاز. يعنون بذلك أنه مطاع في المصرين، وعند أهلهما. وليس يعنون أن ذات المذكور بالحجاز والعراق موجودة".
شبهة المعية: وردت آيات كثيرة تُثبت المَعِيَّة. وقد زعم المعطلة وأتباعهم أن هذه الآيات تنفي الاستواء، وتُثبت أن الله في كل مكان ، ويرد الباقلاني على مقترفي هذه الشبهة بقوله: " وقوله تعالى : ( إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون ) ، يعني بالحفظ، والنصر، والتأييد. ولم يُرِد أن ذاته معهم تعالى وقوله تعالى: ( إنني معكما أسمع وأرى ) ، محمولٌ على هذا التأويل ـ أي التفسيرـ، وقوله تعالى: ( ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ) ، يعني: أنه عالم بهم، وبما خَفيَ من سرهم، ونجواهم. وهذا إنما يُستعمَل كما ورد به القرآن، فلذلك لا يجوز أن يقال قياساً على هذا: إن الله بالبَرَدَان، ومدينة السلام( 7)، ودمشق، وأنه مع الثور والحمار، وأنه مع الفُسَّاق، والمهان، ومع المُصْعِدين إلى الحُلْوان(
قياساً على قوله: (إن الله مع الذين اتقوا ) ، فوجب أن يكون التأويل على ما وصفناه" .. وسيأتي بسط بيان عن المعية.
رده على من فسّر الاستواء بالاستيلاء: ويقول الباقلاني: " لا يجوز أن يكون معنى استوائه على العرش هو استيلاؤه كما قال الشاعر:
قد استوى بشرٌ على العراق
لأن الاستيلاء : القدرة والقهر. والله تعالى ـ لم يزل قادراً قاهراً، عزيزاً مقتدراً. وقوله تعالى: ( ثم استوى ) ، يقتضي استفتاح هذا الوصف بعد أن لم يكن، فبطل ما قالوه"( 9).
زهق الباطل: نُشر كتاب التمهيد للباقلاني بالقاهرة سنة 1947م وليس فيه هذا النص الذي نقلناه هنا، وقد أشرف على طبعه والتعليق عليه أستاذان من أساتذة جامعة القاهرة، وقد فتنهما عن الحق والتثبت شيخٌ شعوبي ( يعني الكوثري ) ، كان لا يدين إلا بمقت السنة وأئمتها، والعروبة وأبطالها؛ لهذا عاش ينال من كل إمام مسلم عربي الأصل، ويدعو إلى الجهمية الصرفة. فكان أن رمى الأستاذان - بِوَسْوَسَةِ الشيخ - الإمامَ ابنَ تيمية وتلميذه ابنَ القيم بما كان يجب أن يرميا به الشيخ الشعوبي، بعد أن أضلهما وضللهما، ونال من كرامتهما العلمية بين الزملاء والجامعيين، ولاسيما بعد ظهور النسخة الكاملة من التمهيد، فقد أثبتت أنهما كانا ضحية من ضحايا حقد الشيخ على ابن تيمية العظيم، وعلى كل ما هو عربي ، إذ وُجد فيها النص الذي نقلناه ! ولشد ما أدهشنا، وأدهش كل محب للحقيقة أن يخضع الأستاذان الكبيران، لتلبيس حاقد موتور، فيصرفهما عن التثبت والبحث والتنقيب الذي يقيم لهما كل معذرة، وهما من أبناء الجامعات التي تزعم أنهما تعلّم ـ أول ما تعلم ـ الحرية والفكرية!!.
لقد اعترف الأستاذان اعترافاً ضمنياً بوجود نقص كبير في نسختهما الخطية التي عثرا عليها في مكتبة باريس، والتي عنها نشرا " التمهيد " ، وبأنها لا تُطابق الفهرس المخطوط الملحق بالنسخة الباريسية، ولهذا يقولان: " ونلاحظ اختلافاً بين هذا الفهرست، ومضمون نص التمهيد الذي قدمناه للقراء، فهو يحتوي على خمس وعشرين عنواناً غير موجودة في نصّنا، كما أنه لا يشير إلى أبواب كثيرة وردت في التمهيد( 10)" ثم يقولان: "وتبقى أخيراً عدة عناوين نجدها موضع شبهة خطيرة منها رقم (30) الخاص بالاستواء على العرش" هذا؛ لأنهما لم يجداه في النسخة التي بين أيديهما، ثم أشارا إلى ما نقله ابن القيم في "الجيوش الإسلامية" عن كتاب التمهيد، وإلى ما ذكره ابن تيمية أيضاً في الحموية وغيرها، ثم قالا: " ولو صدقنا ابن تيمية وتلميذه ابن القيم في نقلهما عن التمهيد، للزمنا أن نقرر أن ما بين يدينا من نص التمهيد غير كامل، ولكنا لا نستطيع ـ عند ملاحظة التعارض البيّن بين مذهب الباقلاني، ومعنى ما ينسبه إليه هذان المؤلفان المعروفان بالتحيز ـ إلا الشك في صحة نقلهما، وقد كتب إلينا العلامة الحجة الشيخ " الكوثري" وكيل مشيخة الإسلام في الخلافة العثمانية في هذا الشأن: " لا وجود لشيء مما عزاه ابن القيم إلى كتاب التمهيد في كتاب التمهيد هذا. ولا أدري ما إذا كان ابن القيم عزا إليه ما ليس فيه زوراً؛ ليخادع المسلمين في نحلته، أم ظن بكتاب آخر أنه كتاب التمهيد للباقلاني، ونحن نثق على كل حال بنسخة التمهيد التي بين يدينا ثقة أقوى من ثقتنا بنقل ابن تيمية وابن القيم" !!
وقد ذكر الأستاذان أيضاً: أنه جاء في الفهرس: "باب القول في الوجه واليدين" ولكنهما لم يجداه في النسخة(11 ) ، كما ذكرا أن الباقلاني قال في مقدمة التمهيد أنه سيتكلم عن مسألة ما في باب "التعديل والتجوير" ، ولكنهما لم يجدا لهذا الباب أثراً في نسختهما الخطية( 12). كما ذكرا أنه يوجد نسختان مخطوطتان للتمهيد غير نسختهما محفوظتان بإستانبول، إحداهما في مكتبة أبا صوفيا تحت رقم 2201، والأخرى في مكتبة عاطف تحت رقم 2223. غير أنهما لم يستطيعا الوصول إلى واحدة منهما. كما اعترفا بأن أيدياً امتدت إلى المخطوطة التي نشر عنها الكتاب. كما ذكر الأستاذان أسماء الكتب التي ألفها الباقلاني والتي لم يعرف الكثير منها النشر، ومنها كتاب "الإبانة عن إبطال مذهب أهل الكفر والضلالة" وهو الذي نقل عنه ابن تيمية في "الحموية" عقيدة الباقلاني في الصفات ، وكتاب "الحرة" وهو الكتاب الذي نقل عنه ابن القيم في "الجيوش" ما يؤيد ما ذهب إليه الباقلاني في التمهيد في مسألة الصفات، غير أنه سماه "الحيرة".
ألا ترى أن كل هذا، بل بعضه كان كافياً في إقناع الأستاذين بأن النسخة التي نشرا عنها الكتاب نسخة ناقصة فعلا!! وفي منع الأستاذين من أن يصدرا على الإمامين الجليلين ابن تيمية وابن القيم هذا الحكم الظالم الذي تسرعا في إصداره، والذي كان من بين "حَيْثيَّاته" لقب وكالة المشيخة الإسلامية!! وقد آمن الأستاذان - بعد - أن هذه الوكالة قد غررت بهما، وجعلت منهما أحدوثة يتفكه بها العاكفون على النظر في المخطوطات ونشرها؛ إذ ما كانت الألقاب من الوسائل التي يعتمد عليها في نشر المخطوطات، وفي التنصيص على نفي شيء أو إثباته!! كما كان من بين "الحيثيات" أن ما نقله الإمامان ابن تيمية وابن القيم يخالف مذهب الباقلاني!.
ولست أدري ما الذي دعاهما إلى إصدار حكمهما بإثبات هذه المخالفة المزعومة!!. أكانت بين أيديهما الكتب الباقلانية التي استنبطا منها مذهب الباقلاني ، وجعلتهما يعتقدان أن ما استنبطاه منها يخالف ما نقله الإمامان الجليلان؟ لم يكن بين أيديهما سوى هذه النسخة الناقصة من التمهيد، فأنى لهما العلم بمذهب الباقلاني الحقيقي؟!.
هذا، وقد نسي الأستاذان، أو تناسيا أننا كثيراً ما نعثر بمثل هذا التناقض في مذاهب كثير من أئمة الأشاعرة، فقد كان بعضهم يدين اليوم بما يتراءى له غداً أنه ضلالة، فينصرف عنه إلى غيره. ودليلنا في هذا : الأشعري نفسه، والجويني، والرازي والغزالي، ففي كل منهم مَسٌّ، وفي تاريخ كل منهم دليل الحقيقة التي تقولها.
وابن تيمية على وفرة خصومه، وترصد المئات منهم للنيل منه، لم يجرؤ واحد منهم على التشكيك في أمانته العلمية، وها هي كتب ابن تيمية، وها هي كتب الحديث والتفسير والفقه والأصول والتصوف والكلام والفلسفة والمنطق والتاريخ واللغة والأدب. فراجعوا ما نقله ابن تيمية في كتبه عن كتب هذه الفنون، وثمت تتجلى لكم قيمة هذه الأمانة العظيمة التي كان يمتاز بها الإمام الجلل، وخبرته الواسعة الدقيقة بكل فن من فنون الثقافات في عصره. ومما يوضح القيمة الجليلة لهذه الأمانة، وشمول هذه الخبرة الواسعة أن نذكر أنه لم تكن هناك مطبعة، ولا كتب مطبوعة!! ولا أكون مغالياً إذا قلت : إن النقول التي توجد في كتب ابن تيمية يجب أن تُجعل مرجعاً من المراجع التي يُرجع إليها عند نشر المخطوطات التي نقل عنها ابن تيمية لتحقيقها، وتصويبها!!.
فقَلَم ابن تيمية، وفكره الثاقب، وفهمه الدقيق، وبصيرته المشرقة، وخبرته الواسعة، وشمول ثقافته وأمانته العظيمة المشهود بها له. كل هذا يجعلنا نثق الثقة المطلقة في دقة النصوص التي توجد في كتبه وفي صحتها، حتى فيما ينقل عن فلاسفة الإغريق، كأرسطو، وإفلاطون!! فما بالك بالثقافة العربية والإسلامية؟!.
ثم أقول للأستاذين: ألا نستطيع اتهامهما بأنهما هما اللذان أخفيا باب الاستواء، وباب الوجه واليدين، ولاسيما ونحن نعلم أن الباعث على هذا الإخفاء موجود وقوي، فقد كانا تحت سيطرة ذلك الشيخ الذي كان لا يبغض إماماً كما يبغض ابن تيمية وابن القيم، ولا يحقد على فئة كما يحقد على أهل السنة!! كنا نستطيع ذلك، مادام الاتهام أصبح هيناً يسيراً كما فعل الأستاذان، ولكننا لم نفعل ؛ لأننا نكرم أنفسنا.
وقد شاء الله سبحانه أن يبرئ الإمامين الجليلين " ابن تيمية وابن القيم" مما رماهما به الشيخ الشعوبي، ومحققا كتاب التمهيد؛ إذ صورت إدارة الثقافة بالجامعة العربية مخطوطة التمهيد التي كانت في استامبول بمكتبة عاطف تحت رقم 2223( 13).
وقد قارن أخونا الأستاذ الجليل الشيخ محمد عبدالرزاق حمزة بين ما في النسخة التي صورتها إدارة الثقافة وبين ما سجله ابن القيم في "الجيوش" وابن تيمية في "الحموية". فتجلت له صورة رائعة من الأمانة العلمية التي امتاز بها الإمام وتلميذه. فنشر هذا في صحيفتنا "الهدي النبوي" وفي رسالة خاصة. وقد طالب الأستاذين أن يذعنا لسلطان الحق القاهر، فيعترفا صراحة بالخطأ، ويستغفرا الله مما بهتا به الإمامين الجليلين، وينشرا في رسالة خاصة ما أغفلته نسختهما، أو يعيدا نشر التمهيد مرة أخرى احتراماً للحقيقة على الأقل. ولم يستجب أحد لهذه الدعوة الجليلة!! وإليك ما جاء في كلمة الأستاذ محمد عبدالرزاق: " بمقارنة نسخة مكتبة مصطفى عاطف بنسخة مكتبة باريس وجدنا نقصاً في نسخة باريس عن نسخة مكتبة عاطف بنحو 72 ورقة تقدر بنحو 30 ورقة من النسخة الباريسية، ومحل النقص بين الورقة 60، والورقة 61 منها" هذا، وقد طبع التمهيد عن العاطفية في بيروت في سنة 1957م من منشورات جامعة بغداد، وقد دحض ناشرها قول الأستاذين اللذين نشرا التمهيد بالقاهرة، وكذبهما فيما نسباه إلى ابن تيمية وابن القيم، مستدلاً بوجود ما نقلاه في النسخ الخطية التي نشر عنها التمهيد في بيروت ومنها العاطفية. وأقول: من يراجع ما نقله الإمام ابن القيم في الجيوش بما في الوجه 137 من النسخة العاطفية المحفوظة صورتها في إدارة الثقافة بالجامعة العربية يجد التطابق التام بين ما نقله ابن القيم في كتابه الجيوش عن التمهيد وبين ما هو موجود في العاطفية. مما يعطينا الدليل فوق ما لدينا من أدلة على أن أمانة ابن القيم وشيخه العظيم ابن تيمية فوق الشبهات. وحق ما يقول أخونا الأستاذ "محمد عبدالرازق حمزة " : " يا ترى هل كان من المصادفات التي لا يؤمن كثير من متعالمي هذا الزمان أنها أقدار الله الجارية بحكمته وعلمه ـ أن تأتي النسخة العاطفية من جبال الأناضول البعيدة عن الناشرين إلى القاهرة على يد هيئة دولية هي إدارة ثقافة الجامعة العربية؟ فقد طارت بتوفيق الله لحضرة السلفي الصالح خادم السنة وباذل ماله ونفسه في نشرها في أقطار العالم الشيخ محمد نصيف بتصوير نسخة منها على نفقته- فجزاه الله خيراً - ليطلع الناس عليها. فيصح عندهم انخرام النسخة الباريسية التي نشرت بالقاهرة، ويقوم دليل جديد بفضل الشيخين ابن تيمية وابن القيم وصحة نقلهما، وبهت من كذبهما، وافترى عليهما". نعم إنها قدرة الله القاهرة.
وهكذا جاء الحق، وزهق الباطل، وثبت ثبوتاً يغمره جلال اليقين أن الباقلاني دان في التمهيد بما يدين به السلف في الصفات، وأنه أحد اللاعنين للخلفية الشوهاء!!.
رأي في الباقلاتي: يقول بروكلمان في دائرة المعارف الإسلامية عن الباقلاني إنه "أدخل في علم الكلام أفكاراً جديدة مأخوذة من الفلسفة اليونانية، أو من المذاهب الاعتقادية للكنيسة الشرقية مثل فكرة الجوهر الفرد، والخلاء(14)، والقول بأن العَرَض لا يحتمل العَرَض، وأنه لا يبقى زمانين" ، وهذه هي إحدى جنايات "الباقلاني، فإنه كما يقول ابن خلدون في مقدمته: "جعل هذه القواعد تبعاً للعقائد الإيمانية في وجوب اعتقادها؛ لتوقف تلك الأدلة عليها، وأن بطلان الدليل يؤذن ببطلان المدلول(15 )".
يجب اعتقاد آراء الكنيسة الشرقية، والفلسفة اليونانية؛ ليصح إيمانناً!! ونحن نسأل الخلف!! أكان صفوة هذه الأمة في قرنها الأول يعرفون الجوهر الفرد والخلاء، والعرض الذي لا يبقى زمانين ؟! ولا يحتمل العرض؟ ونسألهم أيضاً: بم يُحْكَم على هؤلاء؟؟ فقد كانوا جميعاً لا يعرفون شيئاً عن هذه الأوهام التي زعموا أنها الأدلة التي يتوقف على معرفتها الإيمان ، والتي زعموا أنها أصل أصول الإسلام(16 )؟